بمناسبة سنة الكهنوت ، وحينما نتكلم عن الرعاية، فإننا نتحدث عن الرب يسوع نفسه. فهو الراعي الحقيقي، وهو الراعي الأول، وهو راعي الرعــــاة. ولايمكن أن توجد رعاية حقيقية وصادقة خارج شخص رب المجد يسوع. والسيد المسيح لم يكلمنا عن مثاليات غير قابلة للتنفيــــذ، ولكن كل ما طلبه منا قام هو شخصيًا بتنفيذه. ولأنه هو الراعي الحقيقي، فقد قال عن نفسه: "أنا هو الراعي الصالح (يو11:10) .ودعاه بولس الرسول "راعى الخراف الأعظم"(عب20:13). ونـــــاداه داود النبي "الرب راعى فلا يعوزني شيء." (مز1:23).
- السيد المسيح مثال في الرعاية الحقيقية:
والراعي الحقيقي هو الذي يتعب من أجل الخراف؛ يترك التسعة وتسعين ويبحث عن الضال، وعندما يجده يحمله على منكبيه فرحاً. لذلك عندما نستعرض حبه العجيب وفداؤه – منذ نزوله من السماء وتجسده من العذراء مريم ومشاركتنا في كــل شيء ما عدا الخطية ، يت~حد بنا ويأخذ جسد طبيعتنا ويخلّصنا من أسر العدو بالفداء الذي أتمه على الصليب، حيث جـــــاز الموت مـــــــــن أجل خلاصنا – فإننا نجد أن التجسد هو افتقاد رعوي حقيقي، والفداء بذل رعوي حقيقي. كانت هناك فجـــــوة بين الله والإنسان؛ فما هو إلهي كان إلى فوق، وما هو إنساني إلــــى أسفل. وفى تجسـُّــدِه أصلح السمائيين مــع الأرضيين وجعل الاثنين واحدًا. ويقول عن نفسه فـــي سفر حزقيال: "أنا أرعى غنمي وأربضها، يقول السيد الـــرب. وأطلب الضال وأستـرد المــــــطرود وأجبر الكــــسير، وأعصب الجريح، وأبيد الســــمين والقـــوي وأرعـــاها بـــــعدل" (حز 34: 15- 16). فــي الجزء الأول مــــــن الفصل الرابع والثلاثين من سفر حزقيال يعاتب فيه الرعاة الذين يقصرون فــي حق الرعية، مقارنا بين الراعي المتفاني الباذل والراعي المتهاون والمستهتر فـــي عمل الرعاية التي ائتمنه الرب عليها، مؤكدًا أن الرعاية الحقيقية هـــــــــي عمل الله نفسه. ويؤكد القديس بطرس الرسول نفس المعنى فــــي قوله: "لأنكم كنتم خرافــًـا ضالة، لكنكم رجعتم الآن إلــــــــــى راعي نفوسكم وأسقفها" (1بط 25:2). ويقول القديس أغسطينوس: "إنــــــــــي أرى الكنيسة كقطيع يسير خلف راعيه". فالله هـــــــو الراعي الحقيقي نستمد منه المعونة والمثال ونخدم بقوته، واضعين أمامنا شخص المسيح القدوس. والكنيسة تسير وراءه كقطيع يسير وراء راعـــــــــــي الغنم. وكلمة "راعي" تطلق علــــــى رب المجــــد يسوع وعلـــى الرسل الأطهار، والأساقفة، والخدام، والخادمات، والآباء، والأمهات. ويسمى الكهنة أيضا "رعاة" عندما يشار إلى العمل الكهنوتي.
- السيد المسيح مثال في البذل:
قدم لنا السيد المسيح مثالاً في البذل بأن قدم ذاته على خشبة الصليب. وقد أشار معلمنا يسوع إلى هذا بوضوح عندما قال: "أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصـــالح يبذل نفســه عن الخــراف" (يو 11:10). إن البذل علامة حب. والسيد المسيح لم يشفق على نفسه في أمور كثيرة كان يتفانى فيها من أجل الآخرين.
- السيد المسيح مثال في التعب:
وفى هذا يقول: "ابن الإنســـان ما جاء ليــُـخدَم، بـــل ليـَـخدِم ويبــــذل نفسه فديــة عـــن كثيرين" (مت 28:20). كان رب المجد يسوع يطوف القرى والمدن كلها على قدميه يكرز ببشارة الملكوت. لم يشفق على نفسه. مشى نصف يوم ليصل إلى السامرة من أجل خلاص نفس واحدة.
- السيد المسيح مثال في الحكمة:
السيد المسيح هو نفسه أقنوم الحكمة، وهو أرانا كيف أنه أخفى ألوهيته عن الشيطان بحكمة إلهية عجيبة لكي يتمم خلاصنا. وهذه الحكمة حيـَّــرت الشيطان، إذ جــرَّبه قائــــلاً: "إن كنت أنت ابن الله . . . " وهكذا حتى وصل إلــى الصليب وأضاع على الشيطان فرصة تعطيل عمل الله الذي أتمه على الصليب.
- السيد المسيح مثال في التعليم:
كان التلاميذ دائمًا ينادونه: "يامعلم" ويسألونه: "يارب علــِّــمنا". وقيل عــــــن السيد المسيح: "فتح فاه وعلـَّــمهم قائلاً" (مت 2:5).
"إمح الذنب بالتعليم". فقبل أن تعاقب علـــى الخطأ، إشرح الصواب أولأً. كان السيد المسيح يبكــِّـــت الكتبة والفريسيين على جفاف تعليمهم وحرفيــَّـته، وأرسَى مبدأ أن يكون التعليم بالروح وليس بالحرف.
أعطانا السيد المسيح ألا نكون عثرة للأخرين، وأن يكون عطاؤنا في الخفاء (فلسي الأرملة). كان السيد المسيح مثالاً فــــــي التعليم بشخصه وبكلامه وسلوكه. وعندما كان يعلمنا أن نحب أعداءنا، نادى على الصليب مــــن أجل صالبيه: "ياأبتاه اغفر لهم".
- السيد المسيح مثال في العمل الفردي:
في أثناء خدمته على الأرض، أعطى ربنا يسوع أهميةً خاصة لكل إنسان؛ فقيرًا أو غنيًا، صحيحًا أو مريضًا، خاطئـًا أو بارًا، متعلمًا أو جاهلاً، رجلاً أو امرأةً، طفلاً أو شيخًا. كان يهتم بأي إنسان، وبكل إنسان. اهتم بالعمل الفردي مـــع المـــــــرأة السامرية، والمرأة الخاطئة، ومع زكــَّـا. فوسط اهتماماته بالعمل العام وعمل الفداء، لم ينس العمل الفردي.
-السيد المسيح مثال في الصلاة:
لا يستطيع الراعي أن يخدم دون أن يصَلــِّـي. والمسألة ليست في مَدى عــِـلم الخادم ولا كثرته، ولكنها فـــي الرُكــَـب منحنية تصلــِّـي باتضاع أمام الله. كان ربنا يسوع يقضي نهاره في الخدمة وليله في الصلاة، فهل كان محتاجًا إلى الصلاة؟ بل كان يعطينا مثالاً كيف نخدم، وكيف يكون الراعي الأمين محب للصلاة. إن الصلاة هي مكوِّن أساسي من مكونات الخدمة، وبدونها فالعمل غير متكامل.
- السيد الميسح مثال في إعداد الخادم:
في أثناء خدمته على الأرض، لم ينفرد الرب يسوع – ولم يكتفي – بالعمل وحده. أعدَّ الإثني عشر تلميذًا والسبعين رسولاً، ثم قال لهم: "اذهبوا . . . اكرزوا . . . علموهم . . . عمدوهم."
-السيد المسيح مثال للدعوة:
الله يدعو أولاده دائمــًـا للخدمة، كل واحد حسب إمكانياته وبحسب ما أعطاهم مـــن مواهب. فالكنيسة الناجحة ليست الكنيسة التي يخدم فيها الأسقف أو الكاهن بمفرده. ولكن هي الكنيسة التي يخدم فيها الشعب كله. ولذلك فالعمل الناجح له شِقـَّــين: عمل الله مع الإنسان؛ إذ يعطيه مواهب وإمكانيات، وعمل الإنسان؛ حيث يجعل نفسه أداة في يد الله.
-السيد المسيح يعمل في الرعاة ومعهم:
لا يمكن لأي عمل رعوي أن ينجح دون أن يعمل الله فيه، لأن الله هو الخادم الحقيقي. هو يعمل معنا وبنا ويتمجــَّــد اسمه في كل مكان وزمان. هو راعي نفوسنا وأسقـُـــفها. هو يعمل في الرعاة فتصير قلوبهم كقلبه ممتلئة حبا وبذلا.
أحيانًا نجد خادمًا يعمل لعشرين سنة ولا يوجد تقدُّم في حياته؛ فهو يكرِّر خدمة سنة واحدة عشرين مرَّة. هذا الخادم لــم يضع حياته بين يدي المسيح. وهو لم يترك الله يعمل فيه ومعه ليغيَّرَه، ويملأ قلبه حبًا وينمو في حياته وأفكاره ومفاهيمه وتعاليمه. وهذا الخادم لم يستمع إلى وصية الرسول بطرس، "أنتم أيها الأحباء، إذ قد سبقتم فعرفتم، احترسوا من أن تنقادوا بضلال الأردياء فتسقطوا من ثباتكم. ولكن انموا فــــــي النعمة وفى معرفة يسوع المسيح" (2 بط 17:3). ومن سِمات الخادم الناجح أنه يعرف أن يد الله معه دائمًا، فلا تتحول الخدمة إلى "روتين". ولكن يصير قلبه ممتلئــًا حبـــًا وكلماته كـَكـَلِـمات سيــِّـده: "أنت تلميذه" (يو 28:9). ويكون حضور الله ظاهرًا جليًا فـــــــي العمل، إذ أن "لغتك تظهرك" (مت 73:26). وهكذا يكون الله هو نــَــسمة حياة الخدمة، وشمسها الدافئة، وحيويتها المتدفقة. فإذا غاب المسيح غاب كل شيء، لكن فــــــــي حضوره يكون الحصاد وفيرًا. إن جهاد الخادم الأساسي في أن يكون أداه طيــِّــعة فـــــــــــي يد المسيح، لأنه "إن لم يبن الرب البيت، فباطلاً يتعب البنــــَّـاؤُون. وإن لم يحرس الــــــرب المدينة، فبـــــاطلاً سهر الحراس." (مز 1:127) وهــو الذي قال: "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئـًا." (يو 5:15).
إن الخدمة الناجحة لا تبدأ مــــن المنبر، بل من المخدع. موسى أولاً، ثم يشوع؛ موسى يرفع يديه فينتصر يشوع. لذلك يجب على الخادم – قبل أن ينضم إلى مجموع الخدام – أن يدخل إلـــــــــى المخدع لطلب المعونة. وقبل أن يبدأ الافتقاد، يجب أن يدخل إلى الكنيسة. ويؤكد بطرس الرسول على ضرورة أن ترعى رعاية الله نظــــَّــارًا، لا عن اضطرار بل عن اختيار، صـــــائرين أمثلة للرعيـــة: " ومتى ظهر رئيس الرعية، تنالون إكليل المجد الذي لا يــــَــبـلــَى." (1 بط 2:5). ويأمـــر الكتاب المقدَّس الرعاة بأن "احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمـــه" (أع 28:20).
والخادم الذي لايهتم بنفسه، ينطبق عليه قول الكتاب المقدس: "جعلوني ناطـُــورة (حارس) الكروم، أمــَّـا كرمي فلـــَـم أنظره." (تث 6:1).وهو الأمر الذي جعل بولـــــس الرسول يقول: "أقمِع جسدي وأستعبـــِـده، حتى بعدما كـَــرَزتُ للآخرين لا أصــــير أنا نفسي مرفوضــًا" (1 كو 27:9).
وخلاصة الأمر أن الله هو الراعي الحقيقي. هو الذي أســـَّس الرعاية، وهو مصدرها. ولا نستطيع أن نقبل أي عمل رعوي من دون الله. فهو المثال، وهو الراعي، وهو الســـَّــند. أما مـَـن ينظر إلى الرعاية علــى أنها عمل "أكاديمي" بحت ويفصل بينها وبين الله، فإنه يتحول إلى مدرِّس وليس راع. وهناك فرق كبير بين الاثنين . ( يتبع )
|