في عيد القديس يوسف البتول تحتفل الكنيسة في التاسع عشر من شهر آذار كل عام بعيد القديس يوسف البتول ، لم نقرأ في الكتاب المقدّس لهذا القديس العظيم كلمة خرجت من فيه، ولم تسمع الأرض نطقاً له. بل كان صمته وكماله، وجمال نفسه، وبديع صفاته، وسمو فضائله، مع بساطة حياته، أروع تعليم، وأفصح بيان، وأجمل فلسفة خرجت من فم إنسان. القديس يوسف مثلٌ أعلى للشبّان وللرجال وللأزواج، وللرهبان المتبتلين، وللعذارى، كما انه شفيع لهؤلاء جميعاً في دينهم ودنياهم. لأنه جمع في شخصه وفي حياته أسمى المزايا وأكمل الفضائل التي يمكن ان يتحلى بها إنسان في هذه الدنيا. كان يوسف البتول من بيت لحم، من سبط يهوذا ومن عشيرة داود. فكان بذلك من أشراف اسرائيل مولداً ومنشأ وحسباً ونسباً. إلا ان الله، الذي كان قد أراد لابنه الوحيد حياة الاتضاح والفقر، شاء ان يكون الرجل الذي سوف ينتدبه ليكون الحافظ الأمين لأمه، والخادم الحكيم الصادق ليسوع في حداثته، فقيراً مسكيناً، لا شأن له بين قومه، ولا ذكر له بين أهله وعشيرته. لكن غنى القديس يوسف كان في قلبه. وكانت ثروته أخلاقه وفضائله. فاصطفاه الله بين جميع رجال اسرائيل لأعظم رسالة دعا إليها بشراً. فكان يوسف ذلك الرجل الذي حقق مقاصد الله فيه... جعل يوسف حياته كلها، وعواطفه وأتعابه وشغله وقواه واسهاره وأفكاره وفقاً على خدمة مريم وابنها يسوع، ومحبتهما والتفاني في سبيلهما. لم يذكر الإنجيل القديس يوسف كثيراً... كان قد رقد بالربّ بين يدي يسوع ومريم... لأنه لما أخد يسوع يبشر بالإنجيل، صار اليهود يتساءلون ويقولون: "أليس هذا ابن يوسف"؟ فمتى كانت وفاة يوسف؟ لا أحد يعلم. انما مات لما انتهت رسالته، واضحى يسوع قادراً، على حسب نواميس وقواعد الطبيعة البشريّة، على القيام بمعيشته ومعيشة والدته. كان يوسف ملاكاً حارساً لمريم، وكان ستاراً لعفافها وشرفها، وكان الحافظ الأمين لطفولة يسوع، وكان الخادم النشيط المحب لتلك العائلة المقدسة. فلما انتهت تلك الرسالة، مات بين يدي يسوع ومريم، مملوءًا نعمة واستحقاقاً وقداسة، وأضحى شفيع المائتين بالرب. لقد امتاز القديس يوسف بإيمانه الحي الذي فاق كل إيمان، وبتواضعه العميق، وبثقته التي لا حدّ لها بالله. اما إيمانه فقد ظهر حياً في الحوادث التي رافقت حبل خطيبته وولادتها ابنها الإلهي وهرب المولود الجديد من وجه هيرودس. ففي ذلك كلّه لم يضعف إيمان يوسف بقدرة الله، وهذا الإيمان الحي كان يذكي فيه المحبة ليسوع، وينير طريقه في حياته الروحية. ان الإيمان هو العين التي بها يرى القلب أسرار الله. اما تواضعه فلقد فاق كلّ حدّ. لأنه تعلّم من مريم ومن يسوع ان لا ينظر إلى ذاته، ولا يتعالى في عين نفسه. كان من سلالة ملوك يهوذا، ومع ذلك لم يغضب لِما ناله من المسكنة والحقارة والفقر. كان أباً ومربياً ليسوع خالق السماوات والأرض، ومع هذا لم يأنف من أن يشتغل بيديه، ويتعب ليل نهار، لكي يقدر ان يعيش هو وعائلته الصغيرة. كان الحارس للمسيح الربّ الذي تنتظره الأجيال منذ ألوف من السنين، ومع هذا كله بقي صامتاً، متواضعا، لا يبوح بسر يسوع ومريم ولا بسرّه لأحد. نراه يتذلل للناس ويخدمهم لكي يكسب معيشته منهم، كاتماً عنهم أمر هذا الولد الإلهي، الذي يأوي إلى بيته ويشاطره مائدته وحجرته، وهو رب المجد ومخلص اسرائيل والمسيح المنتظر. هذه هو يوسف الذي يفرح في داخله بأن يبقى عند الناس منسياً، لكي يكون بكل قواه الروحية والجسديّة لخدمة الله وخدمة ابنه ومريم أمه. لأنه كيف يمكنه أن يرى ابن الله، وقد "أخلى ذاته آخذاً صورة عبد"، ويسعى هو إلى الظهور والمجد الباطل؟ ان يوسف هو حقاً مثال الوداعة والتواضع. نختم كلامنا عن هذا القديس العظيم بما قالته في شفاعته القديسة تريزا الافيلية. قالت: "أناشد بالرب جميع الذين يشكّون في كلامي عن قوة شفاعة القديس يوسف، بأن يجربوا الأمر هم أنفسهم، فيتأكد لهم كم شفاعته قادرة، وكم يجنون لذواتهم من الخير اذا كرّموا هذا الأب الأكبر المجيد، والتجأوا إلى معونته". نطلب شفاعته آميــن |